
لماذا العودة إلى القمر وغزوِهِ مرة أخرى ؟
الجميع يعلم أن القمر جرم سماوي صغير تابع لكوكب الأرض وذكر في كتاب الله في عدد من الآيات الكريمات، التي وصفته بحركاته المختلفة ومميزاته الكونية العظيمة، فوصفته بالحسبان والسجود والتسخير بأمره سبحانه، والجريان إلى أجل مسمى والسباحة في فلك (كما هي الحال لأي جرم سماوي آخر)، ووصفت منازله وأطواره، ومراحله المتتالية الموزعة على 28 يوماً (الهلال بعد غروب الشمس، والهلال المتزايد والتربيع الأول، والأحدب المتزايد، والبدر ثم الأحدب المتناقص، والتربيع الثاني، ثم الهلال المتناقص، والهلال قبل شروق الشمس إلى المحاق).
يتحرك القمر في دورته حول الأرض بين ثوابت النجوم والكوكبات النجمية والأبراج، وموقعه وشكله في كل ليلة تسمى منزلاً من منازله ال 28، أي بعدد الليالي التي يتغير فيها القمر شكلاً ظاهرياً وموقعاً كل شهر، ولما كان القمر في جريه مع الأرض حول الشمس يمر خلال البروج السماوية الثلاثة عشر التي تمر بها الأرض؛ فإن كل منزلة من منازل القمر تحتل مكاناً معيناً في كل برج من هذه البروج، والقمر يقطع في كل ليلة 13 درجة تقريباً من دائرة البروج تلك.
القمر جرم سماوي صغير، ويمثل القمر الطبيعي الوحيد للكرة الأرضية، وهو خامس أكبر أقمار كواكب المجموعة الشمسية، فقطره بحدود 3476 كيلومتراً؛ أي ربع قطر الأرض تقريباً، وكتلته تساوي 73.5 ألف مليون مليون مليون طن، وكتلة الأرض تعادل 81 مرة أكبر من كتلة القمر، ومعدل بُعْده عن الأرض 385000 كم تقريباً.
للقمر علاقات رياضية مهمة بموضوعات تتعلق بالطقس وعدد أيام السنة وما إلى ذلك، فمدة دورانه حول نفسه تعادل مدة دورانه حول الأرض، الأمر الذي يعني أنه كلما يظهر لنا سيبدو بوجه واحد لا يتغير في جميع أنحاء العالم، وتتسبب ظاهرتا المد والجزر في حركة خفيفة للقمر، بموجبها يبتعد ويقترب من الأرض بواقع 0.4 سنتيمتر سنوياً.
ويُعّد القمر الوحيد من بين الأجرام السماوية الذي هبط عليه البشر بأقدامهم من خلال برنامج أبوللو الفضائي التابع لوكالة الفضاء (ناسا) الأمريكية، وكان أول هبوط في يوليو/تموز عام 1969 خلال رحلة «أبوللو 11» واستمر لعدد من المرات إلى عام 1972، وخلال هذه المدة بدأت واستمرت الثورة التكنولوجية الفضائية الأرضية لاستكشاف الكون ومختلف أجرامه السماوية، فضلاً عن أن كثيراً من هذه التكنولوجيات استخدمت على سطح الأرض لفائدة البشرية في الطب والعلوم الصحية والهندسية والاستشعار عن بعد، لدراسة موارد الأرض الطبيعية بما في ذلك استكشاف أعماق البحار من الفضاء والتكنولوجيات الفضائية العسكرية والأمنية، ومن خلال ذلك استمر التسارع التكنولوجي وتم ابتكار أجهزة ومعدات ووسائل تقنية عديدة، نستخدمها الآن في حياتنا اليومية مثل الهواتف النقالة، ووسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات والمواصلات والنقل وغيرها.
وها نحن اليوم نجد الثورة التكنولوجية في تسارع منقطع النظير، لدرجة أن كثيراً من دول العالم لا تستطيع اللحاق بها، إذ إن التسارع التكنولوجي اليوم أسرع من الأمس والغد أسرع من اليوم وهكذا. وينادى الآن علماء الفلك والفضاء بالعودة إلى القمر، ليس بهدف استكمال استكشافه فحسب، وإنما لجعله منصة إطلاق (مطار كوني) إلى الفضاء الخارجي، وخاصة من على سطحه غزو الكواكب الأخرى، وبالأخص القريبة من الأرض مثل المريخ.
وكما نعلم فإن القمر سحر الإنسان منذ كان في الكهوف، وأدرك فيما بعد أن القمر هو الشريك الرئيسي للأرض في حدوث ظاهرتي خسوف القمر وكسوف الشمس، فضلاً عن ظاهرتي المد والجزر، وأقيمت له المعابد في الحضارات القديمة، كما استعين به في مواقيت الزراعة وتعيين الاتجاهات في عرض البحار.
أما الآن في عصر التكنولوجيا فيريد العلماء من القمر غير الذي أراده منه القدماء، فإنهم يرغبون أن يجعلوا منه منصة إطلاق (مطار كوني) إلى الفضاء الخارجي، كما يفكر العلماء في بناء مستوطنات بشرية على سطحه عند القطبين أولاً، لأن هناك اعتقاد الآن بوجود جليد ماء في شقوق لم تصلها أشعة الشمس منذ بلايين السنين. وبطبيعة الحال سيكون العلماء المستوطنين الأوائل، وحين تستقر الأمور يتم إنشاء البنية التحتية، وستلحق بهم عائلاتهم وذووهم، وستصمم هذه المستوطنات لتصبح مكتفية ذاتياً بكل شيء (أي استيطان القمر واستخدام مادته لبناء محطات ومدن فضائية مدارية).
وبسبب انخفاض الجاذبية على سطح القمر (سدس جاذبية الأرض)، ستزدهر صناعات يصعب تحقيقها على الأرض، ويتم نقل المصانع الذرية والنووية من الأرض إلى القمر، ويتم بناء مناجم لاستخراج المواد الأولية والمتوافرة لصناعة السيراميك والإسمنت، لاستخدامها في مستوطنات الفضاء مستقبلاً أو حتى في الأرض.
واليوم بعد 47 عاماً أعلنت المنظمات الفضائية ومنها وكالة الفضاء الأمريكية NASA عن عزمها على تنظيم رحلات تجارية مأهولة إلى القمر بحلول عام 2025، وبيع مقاعد ومساحات الحقائب للأفراد الأثرياء والشركات وغيرها، فضلاً عن استخدام سطح القمر كقاعدة إطلاق إلى كوكب المريخ بالدرجة الأولى، ومن ثم إلى الكواكب الأخرى والفضاء الخارجي.
ونحن نعلم اليوم جميعاً أن العديد من المنظمات الفضائية ومن ضمنها وكالة الفضاء الأمريكية، وكذلك وكالة الفضاء الإماراتية تخطط لغزو المريخ لأسباب عديدة منها، أن المريخ أقرب الكواكب إلينا، وأن غلافه الجوي المؤلف 96% غاز ثاني أوكسيد الكربون، و1.9% نيتروجين، والبقية آثار من الأوكسجين الحر، وأول أوكسيد الكربون والماء والميثان، وهو مشابه للغلاف الجوي الأرضي عند بداية تكوينه، ويعتقد العلماء بأنه سيكون في المستقبل البعيد بيئة خصبة لسكن البشر على سطحه، فضلاً عن زيادة في التقدم والتسارع التكنولوجي وابتكار تقنيات جديدة لفائدة الإنسانية.
أ.د. حميد مجول النعيمي
مدير جامعة الشارقة
رئيس الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك
التعليقات